بقلم الناقد الفني/ د أمل الجمل
عرف التاريخ جرائم شنيعة. تلوّثت أيادي ملايين البشر بالعنصرية والفاشية، وبدمائهما. حروبٌ أهلية، وأخرى عالمية. قنابل ذرّية ومفاعلات نووية شَوّهت مُدناً وناسها الأبرياء. أوبئة مُصنّعة، وأخرى طبيعية، قتلت عشرات الملايين. ثورات دموية من أجل الاستقلال. حركات وطنية قُمِعَت بصنوف من التعذيب والترهيب لا تخطر على قلب بشريّ وعقله. أشكال إبادة، وأفعال جُرميّة مُروّعة في أنحاء مختلفة من العالم. ثم تحصل جريمة إسرائيل في لحظات حرجة من عمر الكون، مُمَارسةً إبادة جماعية مُمنهجة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فتُضيف فصلاً فاجعاً.
رغم فظاعة تلك الجرائم وهولها، ظلّت السينما، أحياناً غير قليلة وإنْ في فترات متباعدة، قادرة على تسجيل موقف إنساني خالد. أعادت خلق الألم غير المُحتَمل. وأيضاً، أعادت ما حدث في الواقع بشاعرية أحياناً، وبعنف دموي يكاد يُضاهي قسوة الواقع أحياناً أخرى. لا تزال تلك الأفلام حيَّةً في الذاكرة الإنسانية.
لم يكن سبب خلود الكاميرا أنّها رصدت/وثَّقت خراباً ودماراً حاصلَين فعلياً. فبعضها روائي أُنجز بعد قرن، أو وثائقي نَبَش وحَفَر في ذاكرة الصُور والحجارة قبل الوثائق. إنّه إبداعٌ خلّاق، يُصوّر بيئة مُشبعة بدفء الوجع بين حالات إنسانية مغدورة ـ باقترابه المكثّف والمُركّز من أعماق البشر، ومن قصص حياتهم، مانحاً المتلقّي فرصة ليرى ويحسّ، والمشاعر تنطق بها وجوه وعيون ـ ومواقف بصرية أساساً، تكشف أشياء حطّمتهم. ربما ظلّت خالدة، لأنّ أصحابها يحكون بجاذبية ساحرة وآسرة، يتورّط متلقّوها (الحكاية) في عوالمهم وحيواتهم وآمالهم وعذاباتهم وكفاحهم.
هذا وحده كافٍ ليحيك لغته السينمائية بمهارة وصدق، ويتجرّد من المبالغات، وبمخاطبة العقل من دون أنْ تخلو المخاطبة من عاطفة. ليس ضرورياً أنْ نشعر فجأة بأنّ تخريب حياة هؤلاء الأبطال، الذي يُحتمل أن يكونوا بسطاء وعاديين وهامشيين، جزءٌ من تخريب الكون الذي نعيش فيه. يكفي أنْ نندمج معهم، فنتصوّر أنفسنا لاشعورياً في وضعيّتهم نفسها.
هل استطاعت السينما أنْ تكون مرآة لما حدث لشعب غزّة في عام؟ لا. لا يوجد إلى الآن فيلمٌ يُعبّر عن فداحة الحرب القذرة. آلاف الأطفال الأبرياء قُتلوا عمداً (40% من نحو 42 ألف شهيدٍ). قُتلِت عائلات بأكملها، إضافة إلى نحو 96 ألف جريح (استخدام أسلحة مُحرَّمة دولياً)، بحسب شهادات دولية تقول إنّ الأسلحة المُستخدَمة، المضمّنة قنابل فوسفورية وغاز الأعصاب واليورانيوم ومواد مُشعّة، قتلتهم وشوّهتهم، بينما القنابل التي تخترق الحصون لم تكتفِ بضرب الأنفاق، إذْ دمّرت عمداً المستشفيات قاتلة مرضاها. عشرات الصحافيين اغتيلوا، وآخرون أُسِروا أو قُتلوا عقب الإفراج عنهم. الطلاب حوصروا في مدارسهم، والمُدرّسون ضُربوا واعتُقلوا، والباقون يُقيمون تحت تهديدٍ مُروّع، خشية “القنابل الغبية”.
صُور الدمار والمذابح تقشعر لها الأبدان. فهل ما سبق لا يُحفِّز المخيّلة الإبداعية، ولا يُحرّك ضمير أي صانع سينما؟ أمْ إنّ هول الفاجعة يصنع حالةً من العجز عن التعبير الفني؟ أيحتاج المبدع إلى وقتٍ لينفصل عن المأساة؟ أمْ إنّه استسلام لكسل وركون إلى منطقة الراحة، بحجّة عدم وجود تمويل؟
في رفح، 15 سبتمبر 2024 (إياد بابا/ فرانس برس)
سينما ودراما
مدينةٌ عصيّةٌ على الموت: “قد يتحطّم الإنسان، لكنّه لا يُهزم”
يقيني أنّ ضيق الوقت وضعف التمويل ليسا السبب، فهناك قنوات تلفزيونية تدفع جيداً لصناعة أفلام، كلّها إخبارية. كما أنّ عدم وجود مؤسّسات حكومية تدعم الإنتاج ليس مُبرّراً، ففي مصر، وعن حرب الاستنزاف (1 يوليو/تموز 1967 ـ 7 أغسطس/آب 1970)، أُنجز أحد أجمل الأفلام، “أغنية على الممرّ” (1972) لعلي عبد الخالق (عن مسرحية بالعنوان نفسه لعلي سالم)، بجهود سينمائيين مصريين (إنتاج “جماعة السينما الجديدة”). صحيحٌ أنّ “المؤسّسة المصرية العامة للسينما” دعمته. لكن، لولا اتّحاد الممثلين وبعض النقاد وشراكتهم في الإنتاج، ولولا حماسة عبد الخالق، لم يكن للفيلم أنْ يتحقّق. هذه أول تجربة له، فبحث عن فنانين لهم الحماسة والرغبة في التعبير عن الاشتياق إلى خوض معركة تُعوِّض شعور الهزيمة.
الآن، هل ينقصنا سينمائيون، ذوو مهارة وخبرة؟ طبعاً لا. هناك إيليا سليمان وهاني أبو أسعد وصالح ومحمد بكري وهيام عباس وآخرون. ماذا ينتظرون؟ ألم تُحرّكهم هذه الوحشية الإسرائيلية؟ ألم تراودهم أفكار قصص واقعية، لدعم أهالي غزّة، وتحريك المجتمع الدولي؟
التمويل ليس عائقاً. التكنولوجيا الحديثة صنعت ثورة في صناعة السينما. في المقابل، هناك كسل سينمائي، وميل إلى الرفاهية. إذاً، المُتاح الآن للمبدعين لم يكن متاحاً للسينمائيين الذين عاشوا حرب الاستنزاف، أو صنعوا أفلاماً عن الإبادة في جنوب أفريقيا أو في أيرلندا.
“قائمة شندلر” (1993) لستيفن سبيلبيرغ لم يبقَ في الذاكرة بسبب خدع أو طفرة تكنولوجية، بل بسبب قصصه وتفاصيله بالغة الإنسانية والوحشية. لذا، على السينمائيين ألا يظلّوا رهينة صناديق الدعم والمؤسّسات التمويلية. هناك أفلامٌ أُنتجت بفضل مساهمات قرّاء وجمهور “أون لاين”. هذا حدث مع أفلامٍ عن مهاجرين غير شرعيين، وأعتقد أنّ الاستعانة بهذه الطريقة لإنجاز أفلامٍ عن غزّة سيفتح باب التمويل بقوّة جبّارة.
تساؤل آخر: لماذا لا نستفيد من نجوم/نجمات هوليوود، الذين تضامنوا مع غزّة، وندّدوا في تصريحات مقروءة أو مُصوّرة بحرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل: سبيلبرغ، وأنجلينا جولي، وخافيير بارديم، وبينيلوبي كروز، والمخرجة سارة فريدلاند، الفائزة بجائزة “لويجي دي لورنتيس ـ أسد المستقبل لأفضل أول فيلم” عن “لمسة مألوفة”، في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي”.
ماذا لو وجّه نجوم السينما الفلسطينية نداءً لصناعة أفلام (قصيرة أو طويلة، وثائقية أو روائية)، أو أفلام قصيرة يجمعها شريط واحد، يشارك فيه كلّ سينمائيّ بفيلمٍ عن حقيقة الإبادة التي يتعرّض لها شعب غزة؟ لا يُشتَرط أنْ تكون المساهمة مادية، بل إبداعية أياً يكن شكلها. فهل يقبلون، أمْ يرفضون؟
رَدّ فعل هؤلاء الممثلين اختبار قوي لمصداقية الشعارات. فالتصريح بالرأي لم يعد مخاطرة كبيرة، وإنّ تعرض صاحبه إلى هجوم. بالعكس، أحياناً يُضفي على صاحبه لمسة إنسانية تستكمل “رتوش” صورة يُريدها لشخصيته أمام جمهوره، أو أمام نفسه. كما أنّ الروّاد في التنديد بالهمجية الإسرائيلية هم الذين تعرّضوا إلى الخطر الحقيقي، لأنّهم كانوا قلّة لا تمتلك حيلة، وتخاطر بعملها.
التضامن الحقيقي المُنزَّه عن الادّعاء أنْ تقوم بفعلٍ. أنْ تساهم بعمل سينمائي يكشف للعالم هول الجريمة وكَمّ الأكاذيب والادّعاءات الإسرائيلية. ألم تفعلها فانيسا رديغريف، الفائزة بـ”أوسكار” أفضل ممثلة في دور ثانٍ عن “جوليا” (1977) لفرد زينمان؟ تضامنت مع القضية الفلسطينية، وشاركت بفيلمٍ عنها (“الفلسطيني”، وثائقي، 1977)، وواجهت هجوماً وحشياً من دون هوادة. ألم يُقدّم كِنْ لوتش مساندة ودعماً حقيقيين؟ تبرّع ببعض إيرادات أفلامه لضحايا فلسطينيين، وقاطع حفلة “أوسكار” والفنانين المتعاونين مع إسرائيل، وقال: “علينا أنْ ندعم الفلسطينين ونتضامن معهم بالطريقة التي يريدونها”.
إذاً، فليُواجه هؤلاء بأنّ الضمير الإنساني يُملي عليهم اتّخاذ موقف ملموس. رسالة إلى سارة فريدلاند وآخرين: يُنتظَر منهم أكثر من مجرّد تصريحات التنديد. يُنتظر فعل سينمائي يكشف للعالم كيف تحوّلت غزّة من سجن مفتوح في 75 عاماً من الاحتلال إلى مقبرة جماعية في عامٍ واحد؟ هذا واجبٌ عليها، لأنّه عندما نعرف (حتى وإنْ لم نشاهد) أنّ فيلمها الفائز بـ”أسد المستقبل”، عن امرأة في دار مُسنّين، في هذا التوقيت الذي يشهد فيه العالم إحدى أبشع المجازر والإبادات الجماعية في التاريخ، يُصبح التساؤل مُلحّاً: ألا يصبح الحديث عن الوحدانية بالغ الرفاهية (مع الاحترام الكامل للمُسنّين)، بينما هناك 42 ألف شخصٍ قُتلوا بوحشية، إلى نحو 100 ألف جريح؟ التساؤل مشروع، ولا يُصادر حَقّ المُبدع في اختيار موضوعه.
ماذا يعني أنْ تتضامن مع شعبٍ يُدفن ويُذبح ويُهان ويُقهر، من دون أنْ تُتاح له فرصة أنْ يسمع العالم صوته؟ إذا كان ممثلو هوليوود يشعرون بالغضب والاستياء إزاء حرب الإبادة، ومعاقبة ملايين المدنيين الفلسطينيين، وحرمانهم من الطعام والدواء والمساعدات الإنسانية؛ وإزاء صلف العدو الصهيوني برفض وقف إطلاق النار؛ وإزاء تواطؤ زعماء العالم في هذه الجرائم ودعمها بهمة ونشاط؛ هل يكفي أنْ يقف كلّ واحد منهم متأنّقاً بأرقى الثياب وأغلاها أمام الكاميرات، وبتسريحة شعر ولمسات ماكياج، ومرتدياً جواهر وأكسسوارات، ليقول إنّ الهجمات على غزّة “فظيعة وغير إنسانية”، وإنّ إسرائيل “ترتكب جرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي”؟ التضامن يعني الفعل. الأفعال أعلى صوتاً من الكلمات.
ستيفن سبيلبرغ صنع رائعةً تغنّى بها العالم (قائمة شندلر)، وعبّر عن رفضه حرب الإبادة في غزّة. فهل يكفي هذا التصريح لإرضاء ضميره؟ تعرّض أبناء قوميّته لحرب إبادة، فصنع عنهم عملاً أسطورياً: لماذا لا يُؤكّد نزاهته ومسؤوليته وإنسانيته عملياً وواقعياً، فيصنع مشهداً سينمائياً يرفض تلك الإبادة الاسرائيلية لأهل غزّة؟ ليس ضرورياً أنْ يدين العمل طرفاً ضد آخر، لكنْ ليُقدِّم وجهة نظره بموضوعية ترفض هجوم “حماس”، وتكشف بشاعة الإبادة الصهيونية ضد أطفال ونساء شعب أعزل محاصر.